الخميس، 17 مايو 2012

تكريس الاستعمار للانفصال الثقافي والعنصري والديني لجنوب السودان كان هو أساس انفصال الجنوب


تكريس الاستعمار للانفصال الثقافي والعنصري والديني لجنوب السودان كان هو أساس انفصال الجنوب
خطط الاستعمار الغربي على محاصرة العالم العربي والإسلامي من الجنوب بدعم النزعات العرقية والعنصرية واختلاف اللون والثقافات واللغات وتدعيمها  باختلاف الدين بنشر المسيحية في جنوب السودان .
بداية جنوب السودان هو الإقليم الجنوبي من السودان ويمتد من خط عرض 10°شمالا وحتى شمال بحيرة ألبرت فى أوغندا ، ومساحته تبلغ ما يقرب من ريع مليون ميل مربع أي حوالي ربع مساحة السودان بكامله ، ويقع معظم الجنوب داخل اطار المنطقة الاستوائية وتختلف كمية الأمطار الساقطة على جنوب السودان من عام إلى آخر ، بل وتختلف أيضا من منطقة إلى أخرى فكمية الأمطار الساقطة هناك تتراوح ما بين 400 مليمتر فى رينك فى أعالى النيل و 1600م عند خط تقسية المياه بين النيل والكنغو و 2200م  على جبال ايماتونج
وينقسم الجنوب إلى اقليمين رئيسيين هما : اقليم الفيضان والإقليم الاستوائي ،ويقع القسم الشمالي من مديرية أعالى النيل ضمن منطقة الأعشاب الممطرة السائدة فى السودان الأوسط ، أما إقليم الفيضان فيتألف من مراع فسيحة ومستنقعات والسدود فى وسط مياه الانهار المنحدرة على سفوح خط تقسيم المياه وتنتشر لتبلغ الوادى ، والنباتات المنتشرة هى نباتات البردى التى تجعل الملاحة عسيرة ، وتضع فاصلا بين الشمال والجنوب ، وأدت هذه الطبيعة الجغرافية إلى إيجاد بيئة تصعب الحياة فيها لتعدد أنماط الحياة ما بين الزراعة المنتقلة ، والرعى ، والصيد وهى نشاطات انتاجية كفائية وغير متطورة .
وخلال الفترة الأخيرة من الحكم المصري التركي المنتهية في 1884 قامت الجمعيات التبشيرية الأوربية بنشاط تبشيرى فى الجنوب في عهد الخديوي إسماعيل اكبر عميل للغرب خلال القرنين الماضيين (لاحظ ان الملك فؤاد هو ابن الخديوي اسماعيل تزوج من نازلي حفيدة سليمان باشا الفرنساوي الذي اسلم ولكن تنصرت نازلي زوجة الملك فؤاد وام الملك فاروق بعد ذلك !!) وقد توقف التبشير خلال حكم المهديين الذى امتد من 1884 وحتى 1899 ، وبعد إعادة فتح السودان استعادت الإرساليات التبشيرية نشاطها ، وقد شجعت الإدارة ذلك ، حتى أن كتشنر أول حاكم عام للسودان يذكر أنه " اذا لم تستطيع القوى المسيحية أن تمركز نفسها فى إفريقيا فان المسلمين العرب على ما أعتقد سوف يصلوا إلى وسط القارة "
ولم تكن عملية نشر المسيحية فى الجنوب سهلة ،فقد كان الجنوبيون من الوثنيين أو من المسلمين يرفضون كل قادم ويهجرون كل جديد ويشكون فى كل غاز ، وقد حاول المسلمون الجنوبيون المنتشرون حول بحر العرب وعند مناطق الجوار بين كردفان وأعالى النيل ، وحول النيل الأبيض التمسك بدينهم ، ولذلك حدثت عند وصول البعثة الكاثوليكية فى سنواتها الأولى ( 1905 - 1907) مشاكل كثيرة صادفها رجال البعثات التبشيرية نتيجة لصد الجنوبيين والمسلمين واعراضهم ، مما اضطرهم لإغلاق الكنائس التى شيدوها، وقرروا العودة إلى بلادهم لولا أن الحاكم الانجليزى  طالبهم بالتريث ، ووعدهم بالقضاء على المقاومة الإسلامية ، وبدأت الحملات الإرهابية توجه إلى المسلمين وتروعهم وتخرب بيوتهم ومساجدهم ، وتطردهم من قراهم ومدنهم
وحرص الانجليز على تذكير الجنوبين فى كل مناسبة بما فعله الشماليون نحوهم من ضروب الاستبعاد فى عهود الاسترقاق ، وكان لما لاقاه الجنوبيون فى العهود السابقة ومنها المهدية أثر على الشك فى كل آن جديد، الا أن الانجليز تجاهلوا وتناسون دور الأوربيين فى عملية الاسترقاق .
وهكذا باعادة فتح السودان نشط العمل التبشيرى فى مناطق الجنوب الوثنية إنشاء مدرستين لإرسالية أباء فيزونا الكاثوليكية فى اعالى النيل فى كل من ديت ووك ولاا ، وتم فتح مدرستين أخريين فى مدينتى واو وكيانجو فى نفس المديرية عام 1905 ، كما فتح مدرسة فى المديرية الاستوائية 1913 . وبدأت الارسالية الانجلية الامريكية عملها عام 1902 فى تل دوليب فى أعالى النيل ، وقامت الإرسالية المتحدة للسودان بإنشاء مدرسة داخلية للبنين فى كل من بالويش وروم كما اقامت مدرسة مشتركة فى ميلوت فى عام 1913 . وقامت جمعية مبشرى الكنيسة الأنجلية الانجليزية بإنشاء اول مدرسة لها فى بور 1905 ، كما أنشأت مدرسة أخرى فى مالك 1906 ، ثم ثالثة فى ياى 1917. واقتصرت مدارس الأدغال ( داخل الغابات ) على المستوى الابتدائى وقليل منها كان مهنيا ونادرا ما كانت المدارس ترقى للمستوى السنوى . وكان تركيز مدارس البتشير على تعليم الطلاب القراءة والكتابة ، وخاصة قراءة الكتاب المقدس ، وتعليم الدين المسيحى ، ولقد أنتقلت المدارس من التعليم باللغة العربية إلى التعليم باللغات المحلية أو اللغة الانجليزية ومما لا شك فيه أن انتقال المدارس والتلاميذ للتعليم من لغة إلى أخرى كان يحدث نقطة لغوية وثقافية ومعلوماتيه كما كان يحدث ربكة ، واضطراب وتقلقل ، بل وصراع ثقافى  لدى  الطالب ، فهم غير مدركين للثقافة المناسبة لهم ، وللعلم والمعرفة التى تفيدهم ، بل ولا حتى للدين الذى يروق لهم ، فالاسلام يسمح لهم بتعدد الزوجات والمسيحية لا تسمح ، لكن الاسلام مرتبط فى أذهانهم - بتأثير التعليم التبشيرى - بتجارة العبيد ، واللغة العربية تربطهم بالعرب الشماليين والأقتصاد الشمالى ، والمسيحية تربطهم بالثقافة والمجتمعات الغربية والكنيسة الغربية .
وكان أطفال مدارس التبشير تدرس مواد دراسية موجهة فمثلا كانوا يدرسون فى مادة الجغرافيا أن " نهر النيل طويل يحمل الثروة والماء من أوغندا وجنوب السودان المحرومين من خيره ويصب فى مصر المتمتعة بخيراته "  ، كذلك كان تلاميذ مدارس التبشير يدرسون مادة التاريخ التى كانت تكرس عوامل الاختلاف والانفصال بين شمال وجنوب السودان ، ففى كتب التاريخ كانت تبرز العناوين التالية " الغزو المصرى لجنوب السودان " و " فتح المهدى لجنوب السودان " ، وكانت توجد بنفس الكتاب صورة لها أهداف عرقية ودينية وإنفصالية مثل صورة تمثل عشرة من السودانيين الجنوبيين العراة مقيدين بسلاسل يحيط بهم  سور من الحبال أمسكه أربعة من الشماليين بيدهم الكرابيج وكتب تحت الصورة " إلى سوق العبيد " وهذه السياسة الغربية وخاصة الانجليزية التي تسير بالمثل الإنجليزي "بطيء ولكن أكيد"   " Slowly but surely "  .
وهكذا كانت كيفية مواجهة العروبة والإسلام على مدي عقود طويلة من تكريس العنصرية والانعزال لدى الجنوبيين وكراهيتهم للإسلام والعرب المسلمين ،ومنذ البداية كان الاستعماريون الأوربيون ينظروا للاسلام والعروبة باعتبارهما خطرا دائما يهدد استقرار النظم التى أقاموها والتى يريدوا إقامتها ، وتحدث لورد كتشنر قبل إعادة فتح السودان عن ضرورة طرد العروبة والاسلام من المناطق الافريقية حيث جاء فى مذكرته المؤرخة فى سبتمبر 1892 بأنه " اذا لم تقبض القوى المسيحية على ناصية الأمور فى افريقيا فاعتقد أن العرب سيخطون هذه الخطوة .
ويشرح اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر عام 1904 فى تقريره السنوى السياسة البريطانية لحركة التبشير فى جنوب السودان يقول " ان سكان هذا القسم وثنيون كلهم لم يروا أحدا من المسيحيين إلا قريبا واتصالهم بالمسلمين يذكرهم بفظائع الدراويش والنخاسين العرب ، وكتب حاكم عام السودان سير ريجنالد ونجد فى تقريره لنفس العام عن تقدم أعمال التبشير فى جنوب السودان ، كما كتب   فى نفس عام 1904 الى حاكم مديرية بحر الغزال بأنه لا يجوز تدريس اللغة العربية لغير المسلمين ، وبأن اللغة الإنجليزية ينبغى أن تكون هى لغة التعليم ، وجدير بالذكر إلى أنه رغم أن سياسة الحكومة قد تركزت حول تدريس اللغة الانجليزية واللغات المحلية الجنوبية فان اللغة العربية ظلت أداة التواصل بين المستويات الدنيا من رجال الادارة وبين التجار ، وساعد وجود قوات الجيش المكونة من العرب الشماليين على استمرارها .
وفى عام 1905 يعلن لورد كرومر عن ميلاد " السياسة الجنوبية " وذلك فى رده على حاكم السودان العام بخصوص تعليم الجنوبيين بلغاتهم الأصلية فيقول له " دع الأمور تسير ، ثم تولى الاختيار بعد ذلك ، وبالرغم من أن سياستك الحالية تبدو مقنعة فى الوقت الحاضر بيد أنها ستتوقف عند نقطة خطيرة وعليك وقتها أن تختار بين العربية والقرآن أو بين الانجليزية والانجيل، واذا قام المبشرون الانجليز بتحمل تبعاتهم فى هذا الشأن فسوف يحلون للك المشكلة " وقد أرسل كرومر إلى جمعية الكنيسة الانجليزية  Church Society  Missionary يبلغها بأن قسما كبيرا من مناطق جنوب السودان قد تم تخصيصه لها وطلب منها ارسال مبشريه
ولقد صدر بعد ذلك " قانون تصاريح التجارة " فى عام 1925 وكان ينص على أنه "  لا يجب أن يقوم أى فرد بخلاف الأفراد المحليين بالتجارة فى المناطق الجنوبية الا بتصريح خاص من السكرتير الادارى أو من حكام الأقاليم المحددة فى نص القانون
هارولد ماكمايكل وزير الداخلية السودانى والسياسة الجنوبية :
لاحظ ان ماكمايكل كان من أهم الباحثين في أمور الأصول والأنساب في السودان واستغلال ذلك في فهم ثم تأجيج العنصرية بعد ذلك بين الشمال والجنوب ، وتقوم سياسة الحكومة فى جنوب السودان على إنشاء مجموعة من الوحدات القبلية أو العنصرية يكون لكل منها اكتفاؤه الذاتي ودعى السكرتير الادارى فى مذكرته الى توفير العاملين من غير المتكلمين باللغة العربية فى الشئون الإدارية والفنية والكتابية ، وأشار إلى انه قد تم فى بعض المناطق مثل مديرية بحر الغزال استخدام اللغة الإنجليزية
ودعى ماكمايكل أيضا إلى الحد من هجرة التجار الشماليين للجنوب والى ضرورة تعرف الموظفين الإنجليز على عادات وتقاليد ومعتقدات ولغات الجنوبيين حتى يمكن توصيل المعلومات إليهم
فقد أوصى ماكمايكل فى مذكرته المشار اليها ( 1930 ) بتصفية المآمير العرب العاملين بالجنوب ، وبأن يحل الموظفون من أبناء الجنوب محل الكتبة والمحاسبين من الشمال ، ولما كان عدد الأفراد الجنوبيين المتعلمين غير كاف لتغطية حاجة الوظائف هناك فقد أوصى كذلك بضرورة الإسراع فى تدريب أولاد الجنوبيين على الأعمال الفنية فى الزراعة والطب والأشغال للاحلال محل الشماليي
ولقد جرت المناقشات بخصوص رفع أجور الموظفين الجنوبيين إلا أن الارساليات التبشيرية حذرت من مخاطر رفع المرتبات والأجور وأثرها السلبى على عملهم التبشيرى ، ذلك لأنهم يرون أن المناخ المناسب لنشاطهم هو وجود طبقات فقيرة .
وينادى ماكمايكل بضرورة " اتخاذ جميع الاجراءات الكفيلة بتشجيع التجار اليونانيين والسوريين ( المسيحيين ) ليحلوا محل الجلابةمن العرب المسلمين
وقد أقامواحاجزا بين قبائل دارفور العربية والقبائل الزنجية الجنوبية ، وتم إخلاء كفياكنجى تماما ، كما تم نقل المركز الادارى وهدم الثكنات العسكرية والدكاكين وتدمير المبانى وحرق المسجد ، كذلك تم اخلاء مدينة راجا ، وابعاد قبائل الفلاتا العربية الى دارفور ، وتم منع أى تزاوج أو إختلاط بين سكان دارفور وقبائل الدنكا الجنوبية وأصبح نظام المرور متوقفا ولا يحدث الا طبقا لتصاريح المرور
لقد خططت الادارة السودانية الانجليزية سياسة فصل الجنوب بهدوء وببطء وحققت الغرض في النهاية حتى بعد رحيل انجلترا بستين عاما وقد استخدمت في ذلك مدارس التبشير والبعثات الكنسية فى تحقيق برامجها ، ولما بدأ صوت الوطنيين السودانيين الشماليين يظهر فى الأفق خاصة ابان الحرب العالمية الثانية بدأ الاداريون الانجليز يغيرون اسلوبهم دون أن يغيروا أهدافهم وعندما وثقوا بأن الجنوبيين قد كونوا بالفعل موقفا لغويا وثقافيا جديدا ازاء الشمال على المستوى اللغوى ( الانجليزية واللغات المحلية فى مواجهة العربية ) وعلى المستوى الدينى ( السيحية أو حتى الوثنية فى مواجهة الاسلام ) قبلوا - حتى ولو مضطرين بسبب الموقف الوطنى الشمالى - فتح النوافذ بين الشمال والجنوب ، لأن الاختلافات الثقافية والدينية أصبحت مانعا بديلا لقانون المناطق المقفلة . لقد حلت السدود اللغوية والثقافية وحتى النفسية محل القوانين الادارية والقوانين العازلة ، لقد كان الاداريون الانجليز قد نجحوا الى حد كبير فى خدع فتيل الاختلاف والصراع الثقافى بين ابناء البلد الواحد فى الشمال والجنوب ، بل وحتى الاختلاف والصراع بين الجنوبيين واخوانهم  الجنوبيين كأثر لاختلاف المذاهب المسيحية التى اعتنقوها والثقافة التى تشربوها ، ولقد أصبح للمتعلمين من أبناء الجنوب خاصة المتحدثين بالانجليزية الرأى والمشورة فى شئون الجنوب وتحديد مستقبله السياسى فيما ظهر بعد ذلك فى مؤتمر جوبا الذى انعقد 1947 لمناقشة مستقبل الجنوب السياسى ، أو فى الجمعية التشريعية المكونة 1948 حيث كان فيها ممثلوا الجنوب من مثقفى الارساليات التبشيرية ، أو فى التمرد الذى ظهرت فيه أثر وعوامل الخلاف ، وفعل الصراع الثقافى بين الشمال والجنوب سنة 1955 .
والشيء بالشيء يذكر أن ما يحاك في مصر بموضوع النوبة هو عن جهل ثقافي من المحرض الغربي او من يقوم بنشاط التأجيج العنصري بين نوبيين مصر.
الا انه لن يكون هناك حاجز بين النوبيين في مصر وأبناء عمومتهم من باقي أهل أقاليم مصر سواء لغوي اوعرقي او عنصري او ديني فالنزعة الدينية الإسلامية والوطنية لدي النوبيين في مصر قوية جدا تجاه إخوانهم المصريين اوالعرب او المسلمين .
مقتطفات من كتاب صراع الثقافات فى جنوب السودان
د. زكى البحيرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق